فصل: باب صلاة الخوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


باب سجود السهو

سجود السهو واجب، وقال بعضهم سنة، والأول أصح، لأنه شرع لنقص تمكن في الصلاة ورفعه واجب فيكون واجبا، ولا يجب إلا بترك الواجب دون السنة، ووجب نظرا للمعذور بالسهو لا للمتعمد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويسجد له بعد السلام سجدتين ثم يتشهد ويسلم‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لكل سهو سجدتان بعد السلام» وروى عمران بن حصين وجماعة من الصحابة»‏.‏ أنه صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام»‏.‏ ثم قيل يسلم تسليمتين، وقيل تسليمة واحدة وهو الأحسن، ثم يكبر ويخر ساجدا ويسبح، ثم يرفع رأسه، ويفعل ذلك ثانيا، ثم يتشهد ويأتي بالدعاء، لأن موضع الدعاء آخر الصلاة، وهذا آخرها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجب إذا زاد في صلاته فعلا من جنسها‏)‏ كزيادة ركوع أو سجود أو قيام أو قعود، لأنه لا يخلو عن ترك واجب أو تأخيره عن محله، وذلك موجب للسهو لأنه عليه الصلاة والسلام قام إلى الخامسة فسبح به فعاد وسجد للسهو‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏أو جهر الإمام فيما يخافت به أو عكس‏)‏ لأن الجهر والمخافتة واجب في موضعهما في حق الإمام، والمعتبر في ذلك مقدار ما تجوز به الصلاة على الاختلاف لأن ما دون ذلك قليل لا يمكن الاحتراز عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يلزم لترك ذكر إلا القراءة والتشهدين والقنوت وتكبيرات العيدين‏)‏ لأن ذلك واجب وما عدا ذلك من الأذكار كالتكبيرات والتسبيح سنة ‏(‏وإن قرأ في الركوع أو القعود سجد للسهو، وإن تشهد في القيام أو الركوع لا يسجد‏)‏ وهذا لأن القعود والركوع ليسا محل القراءة فكان تغييرا فيجب، والقيام محل الثناء فلا تغيير فلا يجب‏.‏

وقيل إن بدأ في القعود بالتشهد ثم بالقراءة فلا سهو عليه، ولو سلم ساهيا قبل التمام سجد للسهو لأنه ليس في موضعه ‏(‏ومن سها مرتين أو أكثر تكفيه سجدتان‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «سجدتان بعد السلام يجزيان عن كل زيادة ونقصان» قال‏:‏ ‏(‏وإذا سها الإمام فسجد سجد المأموم وإلا فلا‏)‏ تحقيقا للموافقة ونفيا للمخالفة ‏(‏وإن سها المؤتم لا يسجدان‏)‏ ولا أحدهما، لأنه لو سجد المؤتم فقد خالف إمامه، وإن سجد الإمام يؤدي إلى قلب الموضوع وهو تبعية الإمام للمأموم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمسبوق يسجد مع الإمام‏)‏ للموافقة ‏(‏ثم يقضي‏)‏ ما عليه؛ ولو سها في القضاء يسجد لأنه منفرد، ولو سها اللاحق في القضاء لا يسجد لأنه مؤتم كأنه خلف الإمام، ولو سجد مع الإمام لا يعتد به لأنه يقضي أول صلاته، ويسجد إذا فرغ لأن محله آخر الصلاة كما مر، والمقيم خلف المسافر حكمه حكم المسبوق في سجدتي السهو‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن سها عن القعدة الأولى ثم تذكر وهو إلى القعود أقرب عاد وتشهد‏)‏ لأن ما يقرب من الشيء يأخذ حكمه ولا يسجد للسهو وهو الصحيح كأنه لم يقم ‏(‏وإن كان إلى القيام أقرب لم يعد‏)‏ لأنه كالقائم ‏(‏ويسجد للسهو‏)‏ لتركه الواجب، ولأنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن سها عن القعدة الأخيرة فقام عاد ما لم يسجد‏)‏ لما روينا‏:‏ «أنه عليه الصلاة والسلام قام إلى الخامسة فسبح به فعاد»‏.‏ولأنه قد بقي عليه ركن وهو القعدة الأخيرة فيعود ليأتي به في محله ليتم فرضه ويسجد للسهو لما بينا ‏(‏فإن سجد ضم إليها سادسة وصارت نفلا‏)‏ لأنه انتقل إلى النفل بالسجدة، لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة، ومن ضرورة ذلك خروجه من الفرض، فقد خرج وبقي عليه ركن فبطل فرضه فيضم إليه سادسة، لأن التنفل بالخمس غير مشروع‏.‏ وقال محمد بطلت الصلاة أصلا بناء على أصل، وهو أنه متى بطلت الفرضية بطل أصل الصلاة عنده لأن التحريمة عقدت للفرض فيبطل ببطلانه، وعندما لا يبطل أصل الصلاة، لأن بطلان الوصف لا يوجب بطلان الأصل، لأن التحريمة عقدت لصلاة هي فرض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن قعد في الرابعة قدر التشهد ثم قام عاد وسلم‏)‏ لأنه بقي عليه السلام وما دون الركعة بمحل الرفض فيعود ‏(‏وإن سجد في الخامسة تم فرضه‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏«إذا فعلت هذا أو فعلته فقد تمت صلاتك»‏.‏‏(‏فيضم إليها ركعة سادسة ويسجد للسهو، والركعتان له نافلة‏)‏ لأنه صح شروعه في النفل بعد إتمام الفرض فيضم السادسة للنهي عن البتيراء وقد بقي عليه الصلاة والسلام في الفرض وقد أخره عن محله فيسجد للسهو‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن شك في صلاته فلم يدر كم صلى وهو أول ما عرض له استقبل، فإن كان يعرض له الشك كثيرا بنى على غالب ظنه، فإن لم يكن له ظن بنى على الأقل‏)‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار مختلفة، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وذلك أول ما سها استقبل»‏.‏ وأنه نص في المسألة الأولى‏.‏ وروى ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم التحري عند الشك فحملناه على كثرة الشك‏.‏ وروى ابن عوف والخدري عنه البناء على اليقين، فحملناه على ما إذا لم يكن له رأي عملا بالنصوص كلها، ثم إذا بنى يقعد في كل موضع يحتمل أن يكون آخر الصلاة تحرزا عن ترك فرض القعدة‏.‏

باب سجود التلاوة

‏(‏وهو واجب على التالي والسامع‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «السجدة على من تلاها، السجدة على من سمعها»‏.‏ وعلى الوجوب، ولأن بعض السجدات أمر فيقتضي الوجوب، وبعضها ذم على ترك السجود وهو معنى الوجوب، وتجب على التراخي، وسواء كان التالي كافرا أو حائضا أو نفساء أو جنبا أو محدثا أو صبيا عاقلا أو امرأة أو سكران، لأن النص لم يفصل؛ ومن لا يجب عليه الصلاة ولا قضاؤها لا يجب عليه سجود التلاوة كالحائض والنفساء لأنها من أجزاء الصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهي في آخر الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى في الحج، والفرقان، والنمل، وآلم تنزيل، وص، وحم السجدة، والنجم والانشقاق، والعلق‏)‏ هكذا هي في مصحف عثمان ‏(‏وشرائطها كشرائط الصلاة‏)‏ لأنها جزء منها ‏(‏وتقضى‏)‏ لمكان الوجوب، ويكره للسامع إذا سجد أن يرفع رأسه قبل التالي، لأن التالي كالإمام، ويكره للإمام أن يقرأها في صلاة المخافتة لئلا يشتبه الأمر على القوم، فربما ركع بعضهم؛ ولو قرأها وسجدها سجد القوم معه وإن لم يسمعوها حكما للمتابعة كما يلزمهم سهوه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن تلاها الإمام سجدها والمأموم‏)‏ لما بينا ‏(‏ولو تلاها المأموم لم يسجداها‏)‏ لما بينا في السهو‏.‏ وقال محمد‏:‏ يسجدونها بعد الفراغ لتحقق السبب وهو السماع وقد زال المانع‏.‏ قلنا هو محجور عن القراءة لما بينا، ولا حكم لتصرف المحجور بخلاف الحائض والنفساء فإنهما منهيان، والنهي يقتضي القدرة على الفعل والحجر لا، وإنما لا يجب عليهما لعدم أهليتهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن سمعها من ليس في الصلاة سجدها‏)‏ لتحقق السبب في حقه والحجر لا يعدوهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن سمعها المصلي ممن ليس في الصلاة سجدها بعد الصلاة‏)‏ لتحقق السبب، وإن سجدوها في الصلاة لم تجزهم لأنها صارت ناقصة للنهي فلا يتأدى بها الكامل ولا تفسد صلاتهم لأنها لا تنافي الصلاة ويعيدونها لما بينا ولا سهو عليهم لأنهم تعمدوها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن تلاها في الصلاة فلم يسجدها فيها سقطت‏)‏ لأنها صلاتية وهي أقوى من الخارجية فلا تتأدى بها، ولو تلاها في الصلاة إن شاء ركع بها وإن شاء سجدها ثم قام فقرأ وهو أفضل، يروى ذلك عن أبي حنيفة، لأن الخضوع في السجود أكمل، وتتأدى بالسجدة الصلاتية لأنها توافقها من كل وجه، وينوى أداء سجدة التلاوة ولو لم ينو ذكر في النوادر أنه لا يجوز‏.‏ وقيل يجوز لأنه أتى بعين الواجب، ولو نواها في الركوع قيل يجوز لأنه أقرب إلى التلاوة‏.‏ وقيل لا وتنوب عنها السجدة التي عقب الركوع، لأن المجانسة بينهما أظهر، روي ذلك عن أبي حنيفة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن كرر آية سجدة في مكان واحد تكفيه سجدة واحدة‏)‏ دفعا للحرج، فإن الحاجة داعية إلى التكرار للمعلمين والمتعلمين، وفي تكرار الوجوب حرج بهم، وكان جبريل يقرأ السجدة على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يسمعها أصحابه ولا يسجد إلا مرة واحدة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا أراد السجود كبر وسجد ثم كبر ورفع رأسه‏)‏ اعتبارا بالصلاتية، وهو المروي عن ابن مسعود، ولا تشهد عليه ولا سلام، لأنهما للتحليل ولا تحريم هناك‏.‏

باب صلاة المريض

‏(‏إذا عجز عن القيام أو خاف زيادة المرض صلى قاعدا يركع ويسجد، أو موميا إن عجز عنهما، وإن عجز عن القعود أومأ مستلقيا‏)‏ وقدماه نحو القبلة ‏(‏أو على جنبه‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يصلي المريض قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء، فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه»‏.‏وقال عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين‏:‏ «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك»‏.‏ ولأن التكليف بقدر الوسع، والأفضل الاستلقاء ليقع إيماؤه إلى جهة القبلة، ويجعل الإيماء بالسجود أخفض من الركوع اعتبارا بهما ‏(‏فإن رفع إلى رأسه شيئا يسجد عليه إن خفض رأسه جاز‏)‏ لحصول الإيماء ‏(‏وإلا لا‏)‏ يجوز لعدمه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن عجز عن الركوع والسجود وقدر على القيام أومأ قاعدا‏)‏ لأن فرضية القيام لأجل الركوع والسجود، لأن نهاية الخشوع والخضوع فيهما، ولهذا شرع السجود بدون القيام كسجدة التلاوة والسهو ولم يشرع القيام وحده، وإذا سقط ما هو الأصل في شرعية القيام سقط القيام؛ ولو صلى قائما موميا جاز، والأول أفضل لأنه أشبه بالسجود‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن عجز عن الإيماء برأسه أخر الصلاة‏)‏ لما روينا، فإن مات على تلك الحالة لا شيء عليه، وإن برأ فالصحيح أنه يلزمه قضاء يوم وليلة لا غير نفيا للحرج كما في الجنون والإغماء بخلاف النوم حيث يقضيها وإن كثرت، لأنه لا يمتد أكثر من يوم وليلة غالبا، قال‏:‏ ‏(‏ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه ولا بحاجبيه‏)‏ لأن فرض السجود لا يتأدى بهذه الأشياء فلا يجوز بها الإيماء كما لو أومأ بيده أو رجله بخلاف الرأس لأنه يتأدى به فرض السجود‏.‏ وقال زفر‏:‏ يومئ بالقلب لأنه يتأدى به بعض الفرائض وهو بالنية والإخلاص فيؤدي به الباقي‏.‏ وجوابه أن الإيماء بالقلب النية ولا يقوم مقام فعل الجوارح كالحج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو صلى بعض صلاته قائما ثم عجز فهو كالعجز قبل الشروع‏)‏ معنا إذا قدر على القعود أتمها قاعدا، وإن عجز فمستلقيا لأنه بناء الضعيف على القوي، وإن شرع قاعدا ثم قدر على القيام بنى خلافا لمحمد بناء على ما تقدم أن صلاة القائم خلف القاعد تجوز عندهما خلافا له ‏(‏ولو شرع موميا ثم قدر على الركوع والسجود استقبل‏)‏ لأنه بناء القوي على الضعيف ولا يجوز لما تقدم ‏(‏ومن أغمي عليه أو جن خمس صلوات قضاها، ولا يقضي أكثر من ذلك‏)‏ نفيا للحرج، وذلك عند الكثرة بالتكرار، وهو مأثور عن عمر وابنه والخدري‏.‏ مريض مجروح تحته ثياب نجسة وكلما بسط تحته شيء تنجس من ساعته يصلي على حاله مستلقيا، وكذا إن كان لا يتنجس لكنه يزداد مرضه أو تلحقه مشقة بتحريكه بأن بزغ الماء من عينه دفعا لزيادة الحرج‏.‏ مريض راكب لا يقدر على من ينزله يصلي المكتوبة راكبا بإيماء، وكذلك إذا لم يقدر على النزول لمرض أو مطر أو طين أو عدو لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام كان في مسير فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقام، فتقدم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء، فجعل السجود أخفض من الركوع»‏.‏ ولأنه إذا لم يقدر على النزول سقط عنه كحالة الخوف، وإذا جاز لهم الصلاة ركبانا ففرضهم الإيماء لأن الراكب لا يقدر على الركوع والسجود ولما روينا؛ وإن قدر على النزول ولم يقدر على الركوع والسجود لأجل الطين صلى قائما بإيماء للعجز عن الركوع والسجود، وإذا صلى راكبا يوقف الدابة، لأن في السير انتقالا واختلافا لا يجوز في الصلاة، وإن تعذر عليه إيقافها جازت الصلاة مع السير كما في حالة الخوف‏.‏ ومن كان في السفينة فإن قدر على الخروج إلى الشط يستحب له الخروج ليتمكن من القيام والركوع والسجود، وإن صلى في السفينة أجزأه لوجود شرائطها، فإن كانت موثقة بالشط صلى قائما، وكذلك إن كانت مستقرة على الأرض لأنه مستقر في أرض السفينة فيأتي بالأركان، وإن كانت سائرة يصلي قائما، فإن صلى قاعدا وهو يستطيع القيام أجزأه وقد أساء؛ قالا‏:‏ لا يجوز لأن القيام ركن فلا يجوز تركه وصار كما إذا كانت مربوطة‏.‏ ولو ما روى ابن سيرين قال‏:‏ أمنا أنس في نهر معقل على بساط السفينة جالسا ونحن جلوس، ولأن الغالب فيها دوران الرأس، والغالب كالمتحقق كما في السفر لما كان الغالب فيه المشقة كان كالمتحقق في حق الرخصة كذا هنا، بخلاف المربوطة لأنها تأخذ حكم الأرض، فإن استدارت السفينة وهي سائرة استدار إلى القبلة حيث كانت لأنه يقدر على الاستقبال من غير مشقة فلا يسقط كالمصلي على الأرض، بخلاف الراكب، لأن الاستقبال يتعذر عليه إذا كان يقطعه عن طريقه فيسقط للعذر، والله أعلم‏.‏

باب صلاة المسافر

‏(‏وفرضه في كل رباعية ركعتان‏)‏ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر» ولا يعلم ذلك إلا توقيفا‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله فرض عليكم الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين»‏.‏ومثله عن علي‏.‏ أما الفجر والمغرب والوتر فلا قصر فيها بالإجماع، ولو أتم الأربع فقد خالف السنة، لأنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بأهل مكة بعد الهجرة صلى ركعتين ثم قال لهم‏:‏ أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، فإن قعد في الثانية أجزأه اثنتان عن الفرض، وقد أساء لتأخير السلام عن موضعه، وركعتان له نافلة لزيادتها على الفرض، وإن لم يقعد في الثانية بطل فرضه لأنه ترك ركنا وهو القعدة آخر الصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصير مسافرا إذا فارق بيوت المصر قاصدا مسيرة ثلاثة أيام ولياليها‏)‏ لأنه لا يصير مسافرا إلا إذا خرج من المصر، وقد قالت الصحابة لو فارقنا هذا الخص لقصرنا‏.‏ وأما التقدير فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها»‏.‏والمراد بيان حكم جميع المسافرين ليكون أعم فائدة، فيتناول كل مسافر سفره ثلاثة أيام ليستوعب الحكم الجميع، ولو كان السفر الذي تتعلق به الأحكام أقل من ثلاث لبقي من المسافرين من لم يبين حكمه، ولأن الألف واللام للجنس فيدخل في هذا الحكم كل مسافر، ومن لم يثبت له هذا الحكم لا يكون مسافرا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏بسير الإبل ومشي الأقدام‏)‏ لأنه الوسط المعتاد، فإن السير في الماء في غاية السرعة، وعلى العجل في غاية الإبطاء، فاعتبرنا الوسط لأنه الغالب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعتبر في الجبل ما يليق به، وفي البحر اعتدال الرياح‏)‏ لأنه هو الوسط، وهو أن لا تكون الرياح غالبة ولا ساكنة، فينظر كم يسير في مثله ثلاثة أيام فيجعل أصلا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يزال على حكم السفر حتى يدخل مصره أو ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مصر أو قرية‏)‏ لأن السفر إذا صح لا يتغير حكمه إلا بالإقامة، والإقامة بالنية أو بدخول وطنه، لأن الإقامة ترك السفر، فإذا اتصل بالنية أتم، بخلاف المقيم حيث لا يصير مسافرا بالنية، لأن السفر إنشاء الفعل فلا يصير فاعلا بالنية‏.‏ وأما دخول وطنه فلأن الإقامة للارتفاق وأنه يحصل بوطنه من غير نية، وكذا نقل أن النبي وأصحابه كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير نية‏.‏ وأما المدة خمسة عشر يوما فمنقولة عن ابن عباس وابن عمر، ولا يعرف ذلك إلا توقيفا، ولأن السفر لا يخلو عن اللبث القليل، فاعتبرنا الخمسة عشر كثيرا فاصلا اعتبارا بمدة الطهر، إذ لها أثر في إيجاب الصلاة وإسقاطها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن نوى أقل من ذلك فهو مسافر وإن طال مقامه‏)‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة‏.‏ وعن أنس قال‏:‏ أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوس تسعة أشهر يقصرون الصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن لزمه طاعة غيره كالعسكر والعبد والزوجة يصير مسافرا بسفره مقيما بإقامته‏)‏ لأنه لا يمكنه مخالفته قال‏:‏ ‏(‏والمسافر يصير مقيما بالنية‏)‏ لما بينا ‏(‏إلا العسكر إذا دخل دار الحرب أو حاصر موضعا‏)‏ لأن إقامتهم لا تتعلق باختيارهم، لأنهم لو نووا الإقامة ثم انهزموا انصرفوا فلا تصح نيتهم ‏(‏ونية الإقامة من أهل الأخبية صحيحة‏)‏ كالأكراد والتركمان في الصحراء والكلأ لأنه موضع إقامتهم عادة، فهو في حقهم كالأمصار والقرى لأهلها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو نوى أن يقيم بموضعين لا يصح‏)‏ إذ لو صح في موضعين لصح في أكثر وأنه ممتنع ‏(‏إلا أن يبيت بأحدهما‏)‏ فتصح النية، لأن موضع الإقامة موضع البيوتة، ألا ترى أن السوقي يكون في النهار في حانوته ويعد ساكنا في محلة فيها بيته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمعتبر في تغير الفرض قصرا وإتماما آخر الوقت‏)‏ لأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت حتى لو سافر آخر الوقت قصر، وإن أقام المسافر آخر الوقت تمم لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت‏)‏ لتقرر فرضهما وقد تقدم ‏(‏فإن اقتدى به في الوقت أتم الصلاة‏)‏ لأنه التزم متابعته‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به فلا تختلفوا على أئمتكم»‏.‏وصيرورته متابعا أن يصلي أربعا ‏(‏فإن أمّ المسافر المقيم سلم على ركعتين‏)‏ لأنه تمّ فرضه ‏(‏وأتم المقيم‏)‏ لأنه بقي عليه إتمام صلاته، ويستحب أن يقول أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، هكذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والعاصي والمطيع في الرخص سواء‏)‏ لإطلاق النصوص، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتيمموا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43؛ المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها»‏.‏من غير فصل، فصار كما إذا أنشأ السفر في مباح ثم نوى المعصية بعده‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير باغ ولا عاد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ أي غير متلذذ في أكلها ولا متجاوز قدر الضرورة، ونحن لا نجعل المعصية سببا للرخصة، وإنما السبب لحوق المشقة الناشئة من نقل الأقدام والحر والبرد وغير ذلك، والمحظور ما يجاوره من المعصية، فكان السفر من حيث إفادته الرخصة مباحا، لأن ذلك مما يقبل الانفصال‏.‏ واعلم أن الأوطان ثلاثة‏:‏ أصلي ويسمى أهليا، وهو الذي يستقر الإنسان فيه مع أهله، وذلك لا يبطل إلا بمثله، وهو أن ينتقل إلى بلد آخر بأهله بعزل القرار فيه، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من مكة إلى المدينة سمى نفسه مسافرا بمكة حيث قال‏:‏ «فإنا قوم سفر» والثاني وطن إقامة، وهو الذي يدخله المسافر فينوي أن يقيم فيه خمسة عشر يوما، ويبطل بالأصلي لأنه فوقه، وبالممائل لطريانه عليه، وبإنشاء السفر لمنافاته الإقامة‏.‏ والثالث وطن سكنى، وهو أن يقيم الإنسان في مرحلة أقل من خمسة عشر يوما، ويبطل بالأول والثاني لأنهما فوقه، وبمثله لطريانه عليه وبيان ضعفه عدم وجوب الصوم وإتمام الصلاة، والله أعلم‏.‏

باب صلاة الجمعة

اعلم أن الجمعة فريضة محكمة لا يجوز تركها إلا لعذر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام في حديث طويل من رواية جابر‏:‏ «واعلموا أن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا في مقامي هذا، فريضة واجبة إلى يوم القيامة» قال‏:‏ ‏(‏ولا تجب إلا على الأحرار الأصحاء المقيمين بالأمصار‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أربعة لا جمعة عليهم‏:‏ العبد، والمريض، والمسافر، والمرأة»‏.‏

ولأن العبيد مشغولون بخدمة المولى، والمرأة بخدمة زوجها، وقد بينا العذر في ترك خروجها إلى الجماعات، وأما المريض فللعجز‏.‏ واختلفوا في الأعمى‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ لا تجب عليه‏.‏ وقالا‏:‏ تجب إذا وجد قائدا لأنه يصير قادرا على السعي فصار كالضال‏.‏ وله أنه عاجز بنفسه كالمريض فلا يصير قادرا بغيره، فإن القائد قد يتركه في الطريق‏.‏ وأما قوله المقيمين بالأمصار فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا جمعة ولا تشريق ولا أضحى إلا في مصر جامع» قال‏:‏ ‏(‏ولا تقام إلا في المصر‏)‏ لما روينا ‏(‏أو مصلاه‏)‏ لأنه في حكمه ‏(‏والمصر ما لو اجتمع أهله في أكبر مساجده لم يسعهم‏)‏ روي ذلك عن أبي يوسف‏.‏ قال محمد بن شجاع الثلجي‏:‏ هذا أحسن ما قيل فيه؛ وقيل هو أن يعيش كل صانع بحرفته‏.‏ وقال الكرخي‏:‏ ما أقيمت فيه الحدود، ونفذت فيه الأحكام‏.‏ وزاد بعضهم‏:‏ ويوجد فيه جميع ما يحتاج الناس إليه في معايشهم‏.‏ وعن محمد كل موضع مصره الإمام فهو مصر، فلو بعث إلى قرية نائبا لإقامة الحدود والقصاص صار مصرا، فلو عزله ودعاه التحق بالقرى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بد من السلطان أو نائبه‏)‏ لأنه لولا ذلك لاختار كل جماعة إماما فلا يتفقون على واحد فتقع بينهم المنازعة، فربما خرج الوقت ولا يصلون، ولأن ذلك يفضي إلى الفتنة، ومع وجود السلطان لا ‏(‏ووقتها وقت الظهر‏)‏ لحديث أنس «كنا نصلي الجمعة مع رسول الله إذا مالت الشمس»‏.‏ ولأنها خلف عن الظهر وقد سقطت الظهر فتكون في وقتها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تجوز إلا بالخطبة‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ ولا يجب السعي إلا إلى الواجب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بدونها‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة وعليه الإجماع، وهي قبل الصلاة، هكذا فعله عليه الصلاة والسلام والأئمة بعده إلى يومنا هذا ‏(‏يخطب الإمام خطبتين‏)‏ قائما يستقبل القوم ويستدبر القبلة ‏(‏يفصل بينهما بقعدة خفيفة‏)‏ هو المأثور من فعله عليه الصلاة والسلام والأئمة بعده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن اقتصر على ذكر الله تعالى جاز‏)‏ وكذلك التسبيحة ونحوها، وإن تعمد ذلك لغير عذر فقد أساء وأخطأ السنة‏.‏ وقالا‏:‏ لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة، لأن الخطبة شرط‏.‏ والتسبيحة والتحميدة لا تسمى خطبة‏.‏ وله أن التسبيحة والتحميدة خطبة‏.‏ لاشتمالها على معان جمة والعبرة للمعاني وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، فقال‏:‏ «لئن أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة»‏.‏ سمي هذا القدر خطبة والخطبة لا نهاية لها، فيتعلق الجواز بالأدنى، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ وهذا ذكر فتجوز الجمعة به ‏(‏والأولى أن يخطب قائما طاهرا‏)‏ هو المأثور‏.‏ ‏(‏فإن خطب قاعدا أو على غير وضوء جاز‏)‏ لما روي أن عثمان لما أسن كان يخطب قاعدا، ولأن الطهارة ليست بشرط للخطبة لأنه ذكر لا يشترط له استقبال القبلة فلا تشترط له الطهارة كالتلاوة والأذان والإقامة، إلا أنه يكره لما فيه من الفصل بين الخطبة والصلاة بالوضوء، وقد أساء لمخالفته السنة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بد من الجماعة‏)‏ لأنها مشتقة منها، ولا خلاف في ذلك‏.‏ واختلفوا في كميتها‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ لا بد من ثلاثة سوى الإمام، وأن يكون الإمام والثلاثة ممن يجوز الاقتداء بهم في غير الجمعة‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ اثنان سوى الإمام، والأصح أن محمدا مع أبي حنيفة‏.‏ لأبي يوسف أن الاثنين جماعة لأنه مشتق من الاجتماع وقد وجد‏.‏ ولهما أن الجمع الصحيح ثلاثة وما دونها مختلف فيه، والجماعة شرط بالإجماع فلا يتأدى بالمختلف‏.‏ قال محمد‏:‏ لا بأس بصلاة الجمعة في المصر في موضعين وثلاثة ولا يجوز أكثر من ذلك، لأن المصر إذا بعدت أطرافه شق على أهله المشي من طرف إلى طرف فيجوز دفعا للحرج، وأنه يندفع بالثلاث فلا حرج بعدها، ولهذا كان علي رضي الله عنه يصلي العيد في الجبانة‏:‏ أي المصلى، ويستخلف من يصلي بضعفة الناس بالمدينة، والجبانة من المدينة والخلاف في الجمعة والعيد واحد‏.‏ وقال أبوحنيفة‏:‏ لا تجوز إلا في موضع واحد لأنه المتوارث، ولأنه لو جاز في موضعين لجاز في جميع المساجد كغيرها من الصلوات وإنه ممتنع‏.‏ وقال أبو يوسف كذلك إلا أن يكون بين الموضعين نهر فاصل كبغداد لأنه يصير كمصرين‏.‏ وكان أبو يوسف يأمر بقطع الجسر يوم الجمعة لتنقطع الوصلة بين الجانبين، فإن لم يكن بينهما نهر فالجمعة لمن سبق لعدم المزاحم، وقد وقعت في وقتها بشرائطها، وتفسد جمعة الآخرين ويقضون الظهر، فإن صلى أهل المسجدين معا، أو لا يدري من سبق فصلاة الكل فاسدة لعدم الأولوية فلا يخرج عن العهدة بالشك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن لا تجب عليه‏)‏ الجمعة ‏(‏إذا صلاها أجزأته عن الظهر، وإن أمّ فيها جاز‏)‏ لأنها وضعت عنهم تخفيفا ورخصة لمكان العذر، فإذا حضروا زال العذر فتجوز صلاتهم كالمسافر إذا صام، وإذا حضروا صارت صلاتهم فرضا فتجوز إمامتهم كما في سائر الصلوات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمكة وهو مسافر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن صلى الظهر يوم الجمعة بغير عذر جاز ويكره‏)‏ وقال زفر‏:‏ لا يجوز، وأصله الاختلاف في فرض الوقت‏.‏ قال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ هو الظهر، لكن العبد مأمور بإسقاطه عنه بأداء الجمعة‏.‏ وقال محمد‏:‏ هو الجمعة لأنه مأمور بها، والفرض هو المأمور به، وله أن يسقطه بالظهر رخصة‏.‏ وعنه أن الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين بأدائه، لأن أيهما أدى سقط عنه الفرض، فدل أن الواجب أحدهما‏.‏ وعند زفر هو الجمعة، والظهر بدل عنها في حق غير المعذور لأنه مأمور بالجمعة منهي عن الظهر، فإذا فاتت الجمعة أمر بالظهر، وهذا آية البدلية‏.‏ ولنا أن التكليف يعتمد القدرة، والعبد إنما يقدر على أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لأنها تتوقف على شرائط تتعلق باختيار الغير، ولهذا لو فاتته الجمعة بأمر بقضاء الظهر لا الجمعة، ويجوز أن يكون الفرض الظهر، ويؤمر بتقديم غيره كإنجاء الغريق آخر الوقت قبل الصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن شاء أن يصلي الجمعة بعد ذلك يبطل ظهره بالسعي‏)‏ وقالا‏:‏ لا تبطل ما لم يدخل مع الإمام، لأن السعي شرط كستر العورة والطهارة‏.‏ وله أن السعي من فرائض الجمعة وخصائصها للأمر والاشتغال بفرائض الجمعة المختصة بها يبطل الظهر كالتحريمة‏.‏ قال ‏(‏ويكره لأصحاب الأعذار أن يصلوا الظهر يوم الجمعة جماعة في المصر‏)‏ لأن فيه إخلالا بالجمعة، فربما يقتدي بهم غيرهم، بخلاف القرى لأنه لا جمعة عليهم وقد جرى التوارث في جميع الأمصار والأعصار بغلق المساجد وقت الجمعة مع أنها لا تخلو عن أصحاب الأعذار، ولولا الكراهة لما أغلقوها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا خرج الإمام يوم الجمعة استقبله الناس‏)‏ به جرى التوارث ‏(‏واستمعوا وأنصتوا‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ نزلت في الخطبة‏.‏ ومن كان بعيدا لا يسمع النداء قيل يقرأ في نفسه، والأصح أنه يسكت للأمر ‏(‏وتكره الصلاة والإمام يخطب‏)‏ لأن الواجب الاستماع لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام»‏.‏ولو شرع في النفل قبل خروجه سلم على ركعتين، فإن كان شرع في الشفع الثاني أتمه، ولو كان شرع في الأربع قبل الجمعة أتمها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا أذن الأذان الأول توجهوا إلى الجمعة‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا‏}‏ ‏(‏‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ ‏(‏وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يديه الأذان الثاني‏)‏ وهو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر‏.‏ فلما كان زمن عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر يؤذن قبل جلوسه على المنبر، فإذا جلس أذن الأذان الثاني، فإذا نزل أقام، فالثاني هو المعتبر في وجوب السعي وترك البيع؛ وقيل الأصح أنه الأول إذا وقع بعد الزوال لإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ ‏(‏فإذا أتم الخطبة أقاموا‏)‏‏.‏

باب صلاة العيدين

‏(‏وتجب على من يجب عليه صلاة الجمعة‏)‏ أما الوجوب فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكملوا العدة ولتكبروا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ قالوا‏:‏ المراد صلاة العيد، لمواظبته عليه الصلاة والسلام عليها ولقضائه إياها، وكل ذلك دليل للوجوب؛ وقيل إنها سنة، والأول أصح؛ وقوله في الجامع الصغير‏:‏ عيدان اجتمعا في يوم‏:‏ الأول سنة، والثاني فريضة‏.‏ معناه وجب بالسنة، لأن قوله ولا يترك واحد منهما دليل الوجوب‏.‏ وقوله على من تجب عليه الجمعة لما بينا فيها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وشرائطها كشرائطها‏)‏ يعني السلطان والجماعة والمصر والوقت وغير ذلك لما مر في الجمعة‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا جمعة، ولا تشريق، ولا فطر، ولا أضحى إلا في مصر جامع» قال‏:‏ ‏(‏إلا الخطبة‏)‏ فإنه يخطب بعد الصلاة، كذا المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها جاز لأنها سنة وليست بشرط، وقد أساء لمخالفة السنة؛ وكذلك إن خطب قبل الصلاة يجوز لحصول المقصود، وهو تعليمهم وظيفة اليوم، ويكره لما بينا، ولا أذان لها ولا إقامة لأنه لم ينقل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويستحب يوم الفطر للإنسان أن يغتسل‏)‏ لما تقدم في الطهارة ‏(‏ويستاك‏)‏ لأنه مندوب إليه في سائر الصلوات ‏(‏ويلبس أحسن ثيابه‏)‏ لأنه صلى الله عليه وسلم كان له جبة فنك يلبسها في الجمع والأعياد ‏(‏ويتطيب‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتطيب يوم العيد ولو من طيب أهله، ثم يروح إلى الصلاة ‏(‏ويأكل شيئا حلوا تمرا أو زبيبا أو نحوه‏)‏ هكذا نقل من فعله عليه الصلاة والسلام، ولأنه يحقق معنى الاسم ومبادرة إلى امتثال الأمر ‏(‏ويخرج صدقة الفطر‏)‏ فيضعها في مصرفها، هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، وفيه تفريغ بال الفقير للصلاة‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم»‏.‏وإن أخرها جاز‏.‏

والتعجيل أفضل ‏(‏ثم يتوجه إلى المصلى‏)‏ ويستحب أن يمشي راجلا، هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكبر جهرا عند أبي حنيفة؛ وقالا‏:‏ يكبر اعتبارا بالأضحى‏.‏ وله ما روي أن ابن عباس سمع الناس يكبرون يوم الفطر، فقال لقائده‏:‏ أكبر الإمام‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أفجن الناس‏؟‏ ولأن الذكر مبناه على الإخفاء‏.‏ والأثر ورد في الأضحى فيقتصر عليه، ولا يتطوع قبل صلاة العيد، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله مع حرصه على الصلاة‏.‏ وعن علي أنه خرج إلى المصلى فرأى قوما يصلون، فقال‏:‏ ما هذه الصلاة التي لم نعهدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ووقت الصلاة من ارتفاع الشمس إلى زوالها‏)‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح أو رمحين، ولما شهدوا عنده بالهلال بعد الزوال صلى العيد من الغد، ولو بقي وقتها لما أخرها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصلي الإمام بالناس ركعتين‏:‏ يكبر تكبيرة الإحرام وثلاثا بعدها، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، ثم يكبر ويركع، ويبدأ في الثانية بالقراءة، ثم يكبر ثلاثا وأخرى للركوع‏)‏ وهذا قول عبد الله بن مسعود، ويؤيده ما روي «أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة العيد أربعا، ثم أقبل عليهم بوجهه فقال‏:‏ أربع كأربع الجنازة‏.‏ وأشار بأصابعه، وخنس إبهامه «ففيه عمل وقول وإشارة وتأكيد‏.‏

وعن أبي حنيفة أنه يسكت بين كل تكبيرتين قدر ثلاث تسبيحات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويرفع يديه في الزوائد‏)‏ لما روينا ‏(‏ويخطب بعد الصلاة خطبتين يعلم الناس فيهما صدقة الفطر‏)‏ لما روى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب بعد الصلاة خطبتين يجلس بينهما كالجمعة، وكذلك أبو بكر وعمر‏.‏ وينبغي أن يستخلف من يصلي بأصحاب العلل في المصر، لما روينا عن علي وإن لم يفعل جاز‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن شهد برؤية الهلال بعد الزوال صلوها من الغد‏)‏ لما تقدم ‏(‏ولا يصلوها بعد ذلك‏)‏ لأنها صلاة الفطر فتختص بيومه، وينبغي أن لا تقضى، لكن خالفناه بما روينا أنه عليه الصلاة والسلام قضاها من الغد فيبقى ما وراءه على الأصل‏.‏

فصل ‏[‏ما يستحب في يوم الأضحى ويوم الفطر‏]‏

‏(‏يستحب في يوم الأضحى ما يستحب في يوم الفطر‏)‏ من الغسل والتطيب والسواك واللبس ‏(‏إلا أنه يؤخر الأكل بعد الصلاة‏)‏ لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يطعم يوم النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته» قال‏:‏ ‏(‏ويكبر في طريق المصلى جهرا‏)‏ هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل المصلى قطع؛ وقيل إذا شرع الإمام في الصلاة قطع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصليها كصلاة الفطر‏)‏ كذا النقل ‏(‏ثم يخطب خطبتين‏)‏ كما تقدم ‏(‏يعلّم الناس فيها الأضحية وتكبير التشريق‏)‏ لحاجتهم إليه ‏(‏فإن لم يصلوها أول يوم صلوها من الغد وبعده، والعذر وعدمه سواء‏)‏ لأنها صلاة الأضحى، فتتقدر بأيامها وهي ثلاثة أيام، ولا فرق بين العذر وعدمه في ذلك‏.‏

فصل ‏[‏كيفية تكبير التشريق‏]‏

‏(‏وتكبير التشريق‏:‏ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد‏)‏ وهو مذهب علي وابن مسعود‏.‏ والأصل فيه ما روي في قصة الذبيح عليه السلام أن الخليل صلوات الله عليه، لما أخذ في مقدمات الذبح جاءه جبريل عليه السلام بالفداء، فلما انتهى إلى سماء الدنيا خاف عليه العجلة، فقال‏:‏ الله أكبر الله أكبر، فسمعه إبراهيم عليه السلام فرفع رأسه، فعلم أنه جاء بالفداء قال‏:‏ لا إله إلا الله والله أكبر، فسمع الذبيح صلوات الله عليه فقال‏:‏ الله أكبر ولله الحمد؛ فصارت سنة إلى يوم القيامة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو واجب عقيب الصلوات المفروضات في جماعات الرجال المقيمين بالأمصار‏)‏ أما الوجوب فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏ قيل‏:‏ المراد تكبير التشريق‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا جمعة ولا تشريق، ولا فطر، ولا أضحى إلا في مصر جامع» والتشريق‏:‏ هو التكبير نقلا عن الخليل والنضر بن شميل؛ ومثله عن علي رضي الله عنه نفاه ثم أوجبه، ومثله يقتضي الوجوب كالفطر والأضحى‏.‏ وأما بقية الشرائط فمذهب أبي حنيفة‏.‏ وقالا‏:‏ يجب على كل من صلى المكتوبة لأنه تبع لها فيجب على من يؤديها؛ ولأبي حنيفة ما روينا، ولأن الجهربالتكبير خلاف الأصل، إذ الأصل الإخفاء‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم تضرعا وخفية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خير الذكر الخفي»‏.‏ ولأنه أبعد عن الرياء، والسنة وردت بالجهر عقيب الصلوات بهذه الأوصاف، فبقي ما وراءها على الأصل ويجب على النساء إذا اقتدين بالرجل، والمسافر إذا اقتدى بالمقيم تبعا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة إلى عقيب صلاة العصر أول أيام النحر ثمان صلوات‏)‏ وقالا‏:‏ إلى عصر آخر أيام التشريق ثلاثة وعشرونصلاة، وهو مذهب علي ومذهبه ومذهب ابن مسعود يؤيده أن الأصل الإخفاء كما تقدم، المصير إلى الأقل جهرا أولى‏.‏ ولهما أنهما عبادة، والاحتياط فيها الوجوب؛ وقيل الفتوى على قولهما‏.‏

باب صلاة الخوف

‏(‏وهي أن يجعل الإمام الناس طائفتين‏:‏ طائفة أمام العدو، وطائفة يصلي بهم ركعة‏:‏ إن كان مسافرا‏)‏ لأنها شطر صلاته، وكذلك في الفجر ‏(‏وركعتين إن كان مقيما‏)‏ لأنهما الشطر ‏(‏وكذلك في المغرب‏)‏ لأنها لا تقبل التنصيف فكانوا أولى للسبق ‏(‏وتمضي إلى وجه العدو وتجيء تلك الطائفة‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏ ‏(‏فيصلي بهم باقي الصلاة ويسلم وحده ‏(‏لأنه قد أتم صلاته‏)‏ ‏(‏ويذهبون إلى وجه العدو، وتأتي الأولى فيتمون صلاتهم بغير قراءة ‏(‏لأنهم لاحقون، ويتحرون أن يقفوا مقدار ما وقف الإمام فكأنهم خلفه ‏(‏ويسلمون ويذهبون؛ وتأتي الأخرى فيتمون صلاتهم بقراءة‏)‏ لأنهم مسبوقون ‏(‏ويسلمون‏)‏ هكذا رواها عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطائفة الثانية أتموا صلاتهم في مكانهم بعد سلام الإمام جاز، لأن المسبوق كالمنفرد فلم يبقوا في حكم الإمام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن قاتل أو ركب فسدت صلاته‏)‏ لأنه فعل كثير، والنبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن أربع صلوات حتى قضاها ليلا، وقال‏:‏ «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى»‏.‏ ولو جازت الصلاة مع القتال لما أخرها، لأن الخندق كان بعد شرعية صلاة الخوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع وهي قبل الخندق، هكذا ذكره الواقدي وابن إسحق‏.‏

وعن أبي يوسف‏:‏ أنها لا تجوز بعد رسول الله لأنها مخالفة للأصول، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وجوابه أن الصحابة صلوها بطبرستان وهم متوافرون من غير نكير من أحد منهم فكان إجماعا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا اشتد الخوف صلوا ركبانا وحدانا يومئون إلى أي جهة قدروا‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏ وعدم التوجه للضرورة، ولأن التكليف بقدر الوسع، ولا يسعهم تأخيرها حتى يخرج الوقت إلا أن لا يمكنهم الصلاة؛ ولا تجوز الصلاة للراكب إذا كان طالبا، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ‏(‏إشارة إليه، فإن لطالب لا يخاف‏.‏ وعن محمد تجوز بجماعة أيضا لما تقدم من الحديث في الصلاة في المطر في باب المريض؛ والفتوى أنه لا يجوز للمخالفة في المكان ‏(‏ولا تجوز الصلاة ماشيا‏)‏ لأن المشي فعل كثير‏.‏ وقال ‏(‏وخوف السبع كخوف العدو‏)‏ لاستوائهما في المعنى، ولو رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف وكان إبلا جازت صلاة الإمام خاصة، لأن المنافي وجد في صلاتهم خاصة، والله أعلم‏.‏

باب الصلاة في الكعبة

‏(‏يجوز فرض الصلاة ونفلها في الكعبة وفوقها‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت بين ساريتين، وبينه وبين الحائط مقدار ثلاثة أذرع، ولأنها صلاة استجمعت شرائطها فتجوز، والاستيعاب في التوجه ليس بشرط، وعليه إجماع الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا، ولأن القبلة اسم للبقعة والهواء إلى السماء، لا نفس البناء على ما ذكرناه؛ وكذا لو صلى على جبل أبي قبيس جازت صلاته لما بينا، وما ورد من النهي عن ذلك محمول على الكراهة، ونحن نقول به لما فيه من ترك التعظيم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن قام الإمام في الكعبة وتحلق المقتدون حولها جاز‏)‏ إذا كان الباب مفتوحا، لأنه كقيامه في المحراب في غيره من المساجد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن كانوا معه جاز‏)‏ لأنه متوجه إلى الكعبة ‏(‏إلا من جعل ظهره إلى وجه الإمام‏)‏ لأنه تقدم على إمامه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام تحلق الناس حول الكعبة وصلوا بصلاته‏)‏ هكذا توارث الناس الصلاة فيه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا؛ ومن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إن لم يكن في جانبه، لأنه حينئذ يكون متقدما عليه، لأن التقدم ولتأخير إنما يظهر عند اتحاد الجانب، أما عند اختلافه فلا‏.‏

باب الجنائز

‏(‏ومن احتضر‏)‏ أي قرب من الموت ‏(‏وجه إلى القبلة على شقه الأيمن‏)‏ هو السنة واعتبارا بحالة الوضع في القبر لقربه منه، واختار المتأخرون الاستلقاء، قالوا‏:‏ لأنه أيسر لخروج الروح ‏(‏ولقن الشهادة‏)‏ قال صلى الله عليه «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله»‏.‏والمراد من قرب من الموت، ولا يؤمر بها لكن تذكر عنده وهو يسمع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن مات شدوا لحييه وغمضوا عينيه‏)‏ هكذا فعل عليه الصلاة والسلام بأبي سلمة، ولأن فيه تحسينه ‏(‏ويستحب تعجيل دفنه‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «عجلوا موتاكم، فإن كان خيرا قدمتموه إليه، وإن كان شرا فبعدا لأهل النار»‏.‏وكره بعضهم النداء في الأسواق، والأصح أنه لا يكره لأن فيه إعلام الناس فيؤدون حقه، وفيه تكثير المصلين عليه والمستغفرين‏.‏

فصل ‏[‏وجوب تغسيل الميت‏]‏

‏(‏ويجب غسله وجوب كفاية‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام «للمسلم على المسلم ست»‏.‏ وعد منها‏:‏ أن يغسله بعد موته حتى لو تركوا غسله أثموا جميعا؛ ولو تعين واحد لغسله لا يحل له أخذ الأجرة، والأصل فيه تغسيل الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه السلام وقالوا لولده‏:‏ هذه سنة موتاكم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجرد للغسل‏)‏ ليتمكن من تنظيفه ووصول الماء إلى جميع بدنه، واعتبارا بغسله حال حياته، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام غسل في ثيابه فذلك خص به تعظيما له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويوضع على سرير مجمر وترا‏)‏ أما السرير لينصب الماء عليه‏.‏ وأما التجمير فلدفع الرائحة الكريهة‏.‏ وأما الوتر فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا أجمرتم الميت فأجمروه وترا»‏.‏‏(‏وتستر عورته‏)‏ لأنه لا يجوز النظر إليها كالحي؛ وقيل يكتفي بستر العورة الغليظة، وتغسل عورته من تحت السرة بعد أن يلف على يده خرقة لئلا يلمسها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويوضأ للصلاة‏)‏ لأنها سنة الغسل‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام للآتي غسلن ابنته ‏(‏ابدأن بميامنها‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏إلا المضمضة والاستنشاق‏)‏ لتعذر إخراج الماء ولعدم تصوره من الميت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويغلى الماء بالسدر أو بالحرض إن وجد‏)‏ لأنه أبلغ في النظافة وهي المقصود، ولأن الماء الحار أبلغ في إزالة الدرن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويغسل رأسه ولحيته بالخطمي‏)‏ تنظيفا لهما ‏(‏من غير تسريح‏)‏ إذ لا حاجة إليه ولا يؤخذ شيء من شعره وظفره، ولا يختن لأنها للزينة وهو مستغن عنها‏.‏ قالت عائشة‏:‏ «علام تنصون ميتكم»‏.‏ ‏؟‏ أي تستقصون‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويضجع على شقه الأيسر فيغسل حتى يعلم وصول الماء تحته، ثم يضجع على شقه الأيمن فيغسل كذلك‏)‏ لأن البداية بالميامن سنة ‏(‏ثم يجلسه ويمسح بطنه‏)‏ لعله بقي في بطنه شيء فيخرج فتتلوث به الأكفان‏.‏ وروي أن عليا لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسنده إلى صدره ومسح بطنه فلم يخرج منه شيء، فقال‏:‏ طبت حيا وميتا يا رسول الله ‏(‏فإن خرج منه شيء غسله‏)‏ إزالة للنجاسة ‏(‏ولا يعيد غسله‏)‏ لأن الغسل عرف بالنص وقد حصل ‏(‏ثم ينشفه بخرقة‏)‏ لئلا تبتل أكفانه فيصير مثلة ‏(‏ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته‏)‏ لأنه طيب الموتى ‏(‏والكافور على مساجده‏)‏ لأن التطييب سنة، وتخصيص مواضع السجود تشريفا لها‏.‏

فصل ‏[‏كيفية التكفين‏]‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يكفنه في ثلاثة أثواب بيض مجمرة‏:‏ قميص، وإزار، ولفافة؛ وهذا كفن السنة‏)‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية منها قميصه‏.‏ وروي أن الملائكة كفنت آدم في ثلاثة أثواب وقالت‏:‏ هذه سنة موتاكم يا بني آدم‏.‏ ‏(‏وصفته أن تبسط اللفافة ثم الإزار فوقها، ثم يقمص وهو على المنكب إلى القدم، ويوضع الإزار وهو من القرن إلى القدم، ويعطف عليه من قبل اليسار ثم من قبل اليمين‏)‏ اعتبارا بحالة الحياة، ثم اللفافة كذلك، وهي من القرن إلى القدم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن اقتصروا على إزار ولفافة جاز‏)‏ اعتبارا بحالة الحياة؛ ولقول أبي بكر رضي الله عنه‏:‏ اغسلوا ثوبيّ هذين وكفنوني فيهما، وهذا كفن الكفاية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يقتصر على واحد إلا عند الضرورة‏)‏ لما روي أنه لما استشهد مصعب بن عمير كفّن في ثوب واحد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعقد الكفن إن خيف انتشاره‏)‏ تحرزا عن كشف العورة ‏(‏ولا يكفن إلا فيما يجوز لبسه له‏)‏ اعتبارا بحالة الحياة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكفن المرأة كذلك وتزاد خمارا وخرقة تربط فوق ثدييها‏)‏ تلبس القميص أولا ثم الخمار فوقه، ثم تربط الخرقة فوق القميص ثم الإزار ثم اللفافة اعتبارا بلبسها حال الحياة وهو كفن السنة، لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها في كفن ابنته ثوبا ثوبا حتى ناولها خمسة أثواب آخرها خرقة تربط بها ثدييها ‏(‏فإن اقتصروا على ثوبين وخمار جاز‏)‏ وهو كفن الكفاية، لأنه أدنى ما تستر به حال الحياة، ويكره أقل من ذلك‏.‏ وعن أبي يوسف يكفيها إزار ولفافة لحصول الستر بهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق القميص تحت اللفافة‏)‏ من الجانبين، لأن في حال الحياة يجعل وراء ظهرها للزينة، وبعد الموت ربما انتشر الكفن فيجعل على صدرها لذلك، والمراهق كالبالغ وغير المراهق في خرقتين إزار ورداء، وإذا ماتت المرأة ولا كفن لها فكفنها على زوجها عند أبي يوسف اعتبارا بكسوتها حال الحياة‏.‏ قال محمد رحمه الله‏:‏ لا يجب لأن الكسوة من مؤن النكاح قد زال‏.‏

فصل ‏[‏حكم صلاة الجنازة‏]‏

‏(‏الصلاة على الميت فرض كفاية‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الصلاة على كل ميت» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «صلوا على كل ميت بر وفاجر»‏.‏ ولأن الملائكة صلوا على آدم وقالوا‏:‏ هذه سنة موتاكم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأولى الناس بالإمامة فيها السلطان‏)‏ لأن في التقدم عليه ازدراء به‏.‏ ولما روي أن الحسين بن علي حين توفي أخوه الحسن قدم سعيد بن العاص وكان أميرا بالمدينة وقال‏:‏ لولا السنة لما قدمتك ‏(‏ثم القاضي‏)‏ لأنه في معناه ‏(‏ثم إمام الحي‏)‏ لأنه رضي بإمامته حال حياته ‏(‏ثم الأولياء الأقرب فالأقرب، إلا الأب فإنه يقدم على الابن‏)‏ لأن له فضيلة عليه فكان أولى‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ الولي أولى بكل حال، وإن تساووا في القرب فأكبرهم سنا، وللأقرب أن يقدم من شاء لأن الحق له ‏(‏وللولي أن يصلي إن صلى غير السلطان أو القاضي‏)‏ لأن الحق له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن صلى الولي فليس لغيره أن يصلي بعده‏)‏ لأن فرض الصلاة تأدى بالولي، فلو صلوا بعده يكون نفلا ولا يتنفل بها، ولأنه لو جاز إعادة الصلاة لأعادها الناس على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولم يفعلوا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمر‏:‏ «إن الصلاة على الميت لا تعاد» قال‏:‏ ‏(‏وإن دفن من غير صلاة صلوا على قبره ما لم يغلب على الظن تفسخه‏)‏ لإطلاق ما روينا، فإذا تفسخ لم يتناوله النص، وقدره بعضهم بثلاثة أيام، والأول أصح لأن ذلك يختلف باختلاف الزمان والتربة ولو علموا بعد الصلاة أنه لم يغسل غسلوه وأعادوا الصلاة، ولو علموا ذلك بعد الدفن لا ينبش لأنه مثلة ولا يعيدها‏.‏ وروى ابن سماعة عن محمد‏:‏ يخرجونه ما لم يهيلوا التراب عليه لأنه ليس بنبش‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويقوم الإمام حذاء الصدر للرجل والمرأة‏)‏ لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة فقام بحذاء صدرها، ولأن الصدر محل الإيمان والمعرفة ومعدن الحكمة، فيكون القيام بحذائه إشارة إلى أن الشفاعة لإيمانه‏.‏ وعن أبي يوسف أنه يقف للرجل حذاء الصدر، وللمرأة حذاء وسطها، لأن أنسا رضي الله عنه فعل كذلك وقال‏:‏ هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول الصحيح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والصلاة أربع تكبيرات‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام في صلاة العيد‏:‏ «أربع كأربع الجنائز»‏.‏ ‏(‏ويرفع يديه في الأولى‏)‏ لأنها تكبيرة الافتتاح ‏(‏ولا يرفع بعدها‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن»‏.‏

ولم يذكرها ‏(‏ويحمد الله تعالى بعد الأولى‏)‏ لأن سنة الدعاء البداية بحمد الله‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يستفتح ‏(‏ويصلي على نبيه عليه الصلاة والسلام بعد الثانية‏)‏ لأن ذكره عليه الصلاة والسلام يلي ذكر ربه تعالى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا لك ذكرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏ قيل لا أذكر إلا وتذكر معي ‏(‏ويدعو لنفسه وللميت وللمؤمنين بعد الثالثة‏)‏ لأن المقصود منها الدعاء، وقد قدم ذكر الله وذكر رسوله فيأتي بالمقصود فهو أقرب للإجابة‏.‏ ‏(‏ويسلم بعد الرابعة‏)‏ لأنه لم يبق عليه شيء فيسلم عن يمينه وعن شماله كما في الصلاة هكذا آخر صلاة صلاها صلى الله عليه وسلم، وهو فعل السلف والخلف إلى زماننا‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ إن دعوت ببعض ما جاءت به السنة فحسن وإن دعوت بما يحضرك فحسن ‏(‏ويقول في الصبي بعد الثالثة‏:‏ اللهم اجعله لنا فرطا وذخرا شافعا مشفعا‏)‏ لأنه مستغن عن الاستغفار، ولا يصلى على غائب لأنه إمام ومأموم وكلاهما لا يجوز مع الغيبة، ولأنه لو جاز لصلى الناس على النبي صلى الله عليه وسلم في سائر الأمصار، ولو صلوا لنقل ولم ينقل، وأما صلاته على النجاشي فإنه كشف له حتى أبصر سريره، لأنه صلى الله عليه وسلم يوم مات قال لأصحابه‏:‏ «هذا أخوكم النجاشي قد مات قوموا نصلي عليه، فصلى وهو يراه وصلت الصحابة بصلاته» قال‏:‏ ‏(‏ولا قراءة فيها ولا تشهد‏)‏ أما التشهد فإن محله القعود ولا قعود فيها‏.‏ وأما القراءة فلقول ابن مسعود‏:‏ لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة قراءة، لا فعلا، ولا قولا، كبر ما كبر الإمام، واختر من أطيب الكلام ما شئت، ولو قرأ الفاتحة بنية الدعاء لا بأس به، أما بنية التلاوة مكروه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن استهل وهو أن يسمع له صوت سمي وغسل وصلي عليه، وإلا أدرج في خرقة ولم يصل عليه‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن استهل المولود غسل وصلي عليه وورث، وإن لم يستهل ولم يصل عليه ولم يورث»‏.‏ رواه أبو هريرة‏.‏

فصل ‏[‏كيفية حمل الجنازة‏]‏

‏(‏فإذا حملوه على سريره أخذوا بقوائمه الأربع‏)‏ لقول ابن مسعود‏:‏ من السنة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع، وفيه تعظيم الميت وصيانته عن السقوط وتخفيف عن الحاملين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأسرعوا به دون الخبب‏)‏ لما روي عن ابن مسعود قال‏:‏ سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن سير الجنازة فقال‏:‏ «دون الخبب الجنازة متبوعة وليست بتابعة ليس معها من تقدمها» قال‏:‏ ‏(‏فإذا وصلوا إلى قبره كره لهم أن يقعدوا قبل أن يوضع على الأرض‏)‏ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى يسوى عليه التراب ولأنها متبوعة، ولأنه ربما احتيج إليهم حتى لو علموا استغنائهم عنهم فلا بأس بذلك ‏(‏والمشي خلفها أفضل‏)‏ لما روينا ولأنه أبلغ في الاتعاظ، والأحسن في زماننا المشي أمامها لما لم يتبعها من النساء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويحفر القبر ويلحد‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اللحد لنا والشق لغيرنا»‏.‏ ولأنه صنيع اليهود والسنة مخالفتهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويدخل الميت من جهة القبلة ويقول واضعه‏:‏ بسم الله وعلى ملة رسول الله، ويوجهه إلى القبلة على شقه الأيمن‏)‏ لما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ مات رجل من بني المطلب، فشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «يا علي استقبل القبلة استقبالا وقولوا جميعا‏:‏ بسم الله وعلى ملة رسول الله، وضعوه لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه»‏.‏ وذو الرحم أولى بوضع المرأة في قبرها، فإن لم يكن فالأجانب، ولا يدخل القبر امرأة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويسجّى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد، ولا يسجّى قبر الرجل‏)‏ لأن مبنى أمرهن على الستر حتى استحسنوا التابوت للنساء ‏(‏ويسوى اللبن على اللحد‏)‏ كذا فعل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏ثم يهال التراب عليه‏)‏ وهو المأثور المتوارث ‏(‏ويسنّم القبر‏)‏ مرتفعا قدر أربع أصابع أو شبر لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما، ولا يسطح لأن التسطيح صنيع أهل الكتاب ‏(‏ويكره بناؤه بالجص والآجر والخشب‏)‏ لأنها للبقاء والزينة والقبر ليس محلا لها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره أن يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة ويجعل بينهما تراب‏)‏ ليصير كقبرين ‏(‏ويكره وطء القبر والجلوس والنوم عليه والصلاة عنده‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك، وفيه إهانة به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا مات للمسلم قريب كافر غسله غسل الثوب النجس، ويلفه في ثوب ويلقيه في حفيرة‏)‏ لأنه مأمور بصلته وهذا منه، ولئلا يتركه طعمة للسباع، ولا يصلى عليه لأنها شفاعة له وليس من أهلها ‏(‏وإن شاء دفعه إلى أهل دينه‏)‏ ليفعلوا به ما يفعلون بموتاهم‏.‏

باب الشهيد

‏(‏وهو من قتله المشركون، أو وجد بالمعركة جريحا، أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب فيه مال، فإنه لا يغسل إن كان عاقلا بالغا طاهرا، ويصلى عليه‏)‏ والأصل في أحكام الشهيد شهداء أحد‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏ «زملوهم بكلومهم ودمائهم، ولا تغسلوهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك»‏.‏ فكل من كان بمثل حالهم أو كان في معناهم بأن قتل ظالما ولم يجب بقتله عوض مالي فله حكمهم‏.‏ وقوله‏:‏ أو قتله المسلمون ظلما، يدخل فيه البغاة وقطاع الطريق، لأن عليا لم يغسل أصحابه الذين قتلوا بصفين‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه «من قتل دون ماله فهو شهيد»‏.‏ وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد كصلاته على الجنازة، حتى روي «أنه صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة رضي الله عنه سبعين صلاة»‏.‏ وفي رواية»‏.‏ سبعين تكبيرة» فإنه كان موضوعا بين يديه ويؤتى بواحد واحد يصلي عليه، حتى ظن الراوي أن الصلاة كانت على حمزة في كل مرة، وقوله‏:‏ إن كان عاقلا بالغا طاهرا هو مذهب أبي حنيفة، لأن عنده يغسل الصبي والجنب والحائض والنفساء إذا استشهدوا‏.‏ وقالا‏:‏ لا يغسل الصبي قياسا على البالغ ولا الجنب، لأن غسل الجنابة سقط بالموت، وما يجب بالموت منعدم في حقه‏.‏ ولأبي حنيفة أنه صح أن حنظلة بن عامر قتل جنبا فغسلتهالملائكة، فكان تعليما، وهو مخصوص من الحديث العام؛ والحائض والنفساء مثله‏.‏ وأما الصبي فلأن الأصل في موتى بني آدم الغسل، إلا أنا تركناه بشهادة تكفير الذنب ليبقى أثرها لما روينا، وهذا المعنى معدوم في الصبي فيبقى على الأصل؛ ومن قتل بالمثقل يجب غسله خلافا لهما بناء على أنه تجب الدية عنده وعندهما القتل، ومن وجد في المعركة ميتا لا جراحة به غسل لوقوع الشك في شهادته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكفن في ثيابه وينقص ويزاد مراعاة لكفن السنة‏)‏ لأن حمزة لما استشهد كان عليه نمرة إن غطي رأسه بدت قدماه، وإن غطيت قدماه بدا رأسه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطى بها رأسه وأن يوضع على قدميه الإذخر وأنه زيادة فدل على جوازها ‏(‏وينزع عنه الفرو والحشو والسلاح والخف والقلنسوة‏)‏ لأنها ليست من أثواب الكفن، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بنزعها عن الشهيد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن أكل، أو شرب، أو تداوى، أو أوصى بشيء من أمور الدنيا، أو باع، أو اشترى، أو صلى، أو حمل من المعركة حيا، أو آوته خيمة، أو عاش أكثر من يوم وهو يعقل غسل‏)‏ لأنه نال مرافق الحياة فخف عنه أثر الظلم، فلم يبق في معنى شهداء أحد، فإنهم ماتوا عطاشا والكأس يدار عليهم خوفا من نقص الشهادة؛ ولو حمل من بين الصفين كيلا تطأه الخيل لا للتداوي لا يغسل، لأنه لم ينل مرافق الحياة‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ إذا مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل غسل لأنه وجبت عليه الصلاة وذلك من أحكام الدنيا، وإن أوصى بأمر ديني لم يغسل، لما روي أن سعد بن الربيع أصيب يوم أحد، فأوصى الأنصار فقال‏:‏ لا عذر لكم إن قتل رسول الله وفيكم عين تطرف، ومات ولم يغسل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمقتول حدا أو قصاصا يغسل ويصلى عليه‏)‏ لأنه لم يقتل ظلما فلم يكن في معنى شهداء أحد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والبغاة وقطاع الطريق لا يصلى عليهم‏)‏ لأنهم يسعون في الأرض فسادا‏.‏ وقال تعالى في حقهم‏:‏ ‏{‏ذلك لهم خزي في الدنيا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ والصلاة شفاعة فلا يستحقونها، وعلي رضي الله عنه ما صلى على البغاة وهو القدوة في الباب، وكان ذلك بمشهد من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا‏.‏

كتاب الزكاة

وهي في اللغة‏:‏ الزيادة، يقال‏:‏ زكا المال‏:‏ إذا نما وازداد، وتستعمل بمعنى الطهارة، يقال‏:‏ فلان زكي العرض‏:‏ أي طاهره‏.‏ وفي الشرع‏:‏ عبارة عن إيجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالك مخصوص، وفيها معنى اللغه لأنها وجبت طهرة عن الآثام‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ أو لأنها إنما تجب في المال النامي إما حقيقة أو تقديرا؛ وسبب وجوبها ملك مال مقدر موصوف لمالك موصوف فإنه يقال زكاة المال‏.‏ قال أبو بكر الرازي‏:‏ تجب على التراخي، ولهذا لا يجب الضمان بالتأخير ولو هلك‏.‏ وعن الكرخي على الفور‏.‏ وعن محمد ما يدل عليه، فإنه قال‏:‏ لا تقبل شهادة من لم يؤد زكاته، وهي فريضة محكمة لا يسع تركها، ويكفر جاحدها، ثبتت فرضيتها بالكتاب وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ وبالسنة وهو ما روينا من الحديث في الصلاة، وعليه الإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تجب إلا على الحر المسلم العاقل البالغ‏)‏ لأن العبد لا ملك له، والكافر غير مخاطب الفروع لما عرف في الأصول، والصبي والمجنون غير مخاطبين بالعبادات، وهي من أعظم العبادات لأنها أحد مباني الإسلام وأركانه ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «رفع القلم عن ثلاث‏:‏ عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» وقال علي رضي الله عنه‏:‏ لا تجب عليه الزكاة حتى تجب عليه الصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إذا ملك نصابا خاليا عن الدين فاضلا عن حوائجه الأصلية ملكا تاما في طرفي الحول‏)‏ أما الملك فلأنها لا تجب في مال لا مالك له كاللقطة‏.‏ وأما النصاب فلأنه عليه الصلاة والسلام قدره به، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليس في أقل من مائتي درهم صدقة»‏.‏ وكذا ورد في سائر النصب‏.‏ وأما خلوه عن الدين فلأن المشغول بالدين مشغول بالحاجة الأصلية، لأن فراغ ذمته من الدين الحائل بينه وبين الجنة أهم الحوائج، فصار كالطعام والكسوة، ولأن الملك ناقص لأن للغريم أخذه منه بغير قضاء ولا رضى؛ والزكاة وجبت شكرا للنعمة الكاملة، ولأن الله جعله مصرفا للزكاة بقوله‏:‏ ‏{‏والغارمين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وبيّن وجوبها عليه وجواز أخذها تناف وصار كالمكاتب، وإن كان له نصاب فاضل عن الدين زكاة لعدم المانع، والمراد دين له مطالب من جهة العباد، وما لا مطالب له من جهة العباد لا يمنع كالكفارات والنذور ووجوب الحج ونحوه، والنفقة ما لم يقض بها لا تمنع، لأنها ليست في حكم الدين، فإذا قضى بها صارت دينا فمنعت‏.‏ واختلفوا في دين الزكاة‏.‏ قال زفر‏:‏ لا يمنع في الأموال الباطنة، لأنه لا مطالب له من جهة العباد لأن الأداء للمالك‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إن كان الدين في الذمة بأن استهلك مال الزكاة بعد الحول وبقي في ذمته وملك مالا آخر فإنه تجب عليه الزكاة، ولا يمنع ما في ذمته من الوجوب، ولو كان الدين في العين كمن له نصاب فمضى عليه سنون، فإنه لا تجب عليه الزكاة لجميع ما مضى من السنين خلافا لزفر؛ وعندهما لا تجب الزكاة في الفصلين، ويمنع الدين سواء كان في الذمة أو في العين، لأن الأخذ كان للإمام، وعثمان رضي الله عنه فوضه إلى الملاك، وذلك لا يسقط حق طلب الإمام حتى لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها، ولو مر بها على الساعي كان له أخذها، فكان له مطالب من جهة العباد فيمنع، والدين المعترض في خلال الحول يمنع عند محمد خلافا لأبي يوسف‏.‏ والمهر يمنع مؤجلا كان أو معجلا؛ وقيل‏:‏ يمنع المعجل دون المؤجل‏.‏

وقوله‏:‏ فائضا عن حوائجه الأصلية، لأن قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المرء أحق بكسبه»‏.‏وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ابدأ بنفسك»‏.‏يدل على وجوب تقدم حوائجه الأصلية وهي‏:‏ دور السكنى، وثياب البدن، وأثاث المنزل، وسلاح الاستعمال، ودواب الركوب، وكتب الفقهاء، وآلات المحترفين وغير ذلك مما لا بد منه في معاشه‏.‏ وأما الملك التام فاحتراز عن ملك المكاتب لأن الزكاة وجبت شكرا للنعمة الكاملة وأنها نعمة ناقصة، ولما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق»‏.‏ وقوله في طرفي الحول، لأن الحلول لا بد منه‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول»‏.‏ ولأنه لا بد من التمكن من التصرف في النصاب مدة يحصل منه النماء، فقدرناه بالحول لاشتماله على الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأسعار غالبا، ثم لا بد من اعتبار كمال النصاب في أول الحول للانعقاد وفي آخره لوجوب الأداء، وما بينهما حالة البقاء فلا اعتبار بها، لأن في اعتبارها حرجا عظيما، فإن بالتصرفات في النفقات يتناقض ويزداد في كل وقت، فيسقط اعتباره دفعا لهذا الحرج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز أداؤها إلا بنية مقارنة لعزل الواجب أو للأداء‏)‏ لأن النية لا بد منها لأداء العبادات على ما مر في الصلاة، والزكاة تؤدى متفرقا، فربما يحرج في النية عند أداء كل دفعة، فاكتفينا بالنية عند العزل تسهيلا وتيسيرا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن تصدق بجميع ماله سقطت وإن لم ينوها‏)‏ والقياس أن لا تسقط وهو قول زفر‏:‏ الدم النية‏.‏ وجه الاستحسان أن الواجب جزء النصاب‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في الرقة ربع العشر» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في عشرين مثقالا نصف مثقال»‏.‏إلى غيره من النصوص، والركن هو التمليك على وجه المبرة، وقد وجد لحصول أداء الواجب قطعا، لأنه لما أدى الكل فقد أدى الجزء، والنية شرطت للتعيين، والواجب قد تعين بإخراج الكل، ولو تصدق بالبعض سقطت زكاة ذلك البعض عند محمد خلافا لأبي يوسف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا زكاة في المال الضمار‏)‏ وهو المال الضائع والساقط في البحر، والمدفون في المفازة إذا نسي المالك مكانه، والعبد الآبق والمغصوب، والدين المجحود إذا لم يكن عليهما بينة، والمودع عند من لا يعرفه ونحو ذلك، والمدفون في البستان والأرض فيه اختلاف الروايات، والمدفون بالبيت ليس بضمار‏.‏ وقال زفر‏:‏ تجب الزكاة في الضمار لإطلاق النصوص، والسبب متحقق وهو الملك، ولا يضره زوال اليد كابن السبيل‏.‏ ولنا قول علي رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا‏:‏ «لا زكاة في المال الضمار»‏.‏وقيل لعمر بن عبد العزيز لما رد الأموال على أصحابها أفلا تأخذ منهم زكاتها لما مضى‏؟‏ قال‏:‏ لا إنها كانت ضمارا، والعبادات لا مدخل للقياس والعقل في إيجابها وإسقاطها فكان توقيفا، ولأنه مال غير نام، لأن النماء بالاستنماء غالبا وهو عاجز، بخلاف ابن السبيل لأنه قادر بنائبه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجب في المستفاد المجانس ويزكيه مع الأصل‏)‏ وهو ما يستفيده بالهبة أو الإرث أو الوصية لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اعلموا أن من السنة شهرا تؤدون فيه الزكاة، فما حدث بعد ذلك فلا زكاة فيه حتى يجيء رأس السنة»‏.‏ وهذا يدل على أن وقت وجوب الأصل والحادث واحد، وهو مجيء رأس السنة، وهذا راجح على ما يروى»‏.‏ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول»‏.‏ لأنه عام، وما رويناه خاص في المستفاد، أو يحمل على ما رواه على غير المجانس عملا بالحديثين، ولأن في اشتراط الحول لكل مستفاد مشقة وعناء، فإن المستفادات قد تكثر فيعسر عليه مراقبة ابتداء الحول وانتهائه لكل مستفاد والحول للتيسير، وصار كالأولاد والأرباح؛ وأما المستفاد المخالف لا يضم بالإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجب في النصاب دون العفو‏)‏ وقال محمد وزفر فيهما‏.‏ وصورته لو كان له ثمانون من الغنم فهلك منها أربعون فعليه شاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد وزفر نصف شاة، ولو كان له تسع من الإبل هلك منها أربع فعليه شاة، وعند محمد خمسة أتساع شاة‏.‏ لمحمد وزفر‏:‏ أن العفو مال نام ونعمة كاملة، فتجب الزكاة بسببه شكرا للنعمة والمال النامي‏.‏ ولنا قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في خمس من الإبل السائمة شاة، وليس في الزيادة شيء حتى يكون عشرا»‏.‏

وهذا صريح في نفي الوجوب في العفو، ولأنه تبع للنصاب فينصرف الهلاك إليه كالربح في المضاربة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتسقط بهلاك النصاب بعد الحول، وإن هلك بعضه سقطت حصته‏)‏ لأن الواجب جزء النصاب لما مر، فكان النصاب محلا للزكاة؛ والشيء لا يبقى بعد محله كالعبد الجاني إذا مات ولم يوجد الطلب لأنها ليست لفقير بعينه، حتى لو امتنع بعد طلب الساعي يضمن على قول الكرخي لأنها أمانة فتضمن بالهلاك بعد الطلب كالوديعة‏.‏ وقال عامة المشايخ‏:‏ لا تضمن، لأن المالك إن شاء دفع العين، وإن شاء دفع القيمة من النقدين والعروض وغير ذلك، فكان له أن يؤخر الدفع ليحصل العوض، وأما بالاستهلاك فقد تعدى فيضمن عقوبة له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز فيها دفع القيمة‏)‏ وكذا في الكفارات والنذور وصدقة الفطر والعشور لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ وهذا نص على أن المراد بالمأخوذ صدقة، وكل جنس يأخذه فهو صدقة‏:‏ «ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب وقال‏:‏ ألم أنهاكم عن أخذ كرائم أموال الناس‏؟‏ فقال المصدق‏:‏ إن ارتجعتها ببعيرين فسكت»‏.‏وأنه صريح في الباب‏.‏ وقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم‏:‏ ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير، فإنه أيسر عليكم، وأنفع لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار«وكان يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليه» وأما قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خذ من الإبل لإبل»‏.‏الحديث، فهو محمول على التيسير، لأن أداء هذه الأجناس على أصحابها أسهل، وأيسر من غيرها الأجناس؛ والفقه فيه أن المقصود إيصال الرزق الموعود إلى الفقير وقد حصل‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الله تعالى فرض على الأغنياء قوت الفقراء وسماه زكاة»‏.‏ وصار كالجزية بخلاف الهدايا والضحايا، لأن إراقة الدم غير معقولة المعنى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويأخذ المصدق وسط المال‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خذ من حواشي أموالهم»‏.‏أي الوسط، ولأن أخذ الجيد إضرار برب المال، وأخذ الرديء إضرار بالفقراء، فقلنا بالوسط تعديلا بينهما، ولا يأخذ الربي ولا الماخض، ولا فحل الغنم، ولا الأكولة لما ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إياكم وكرائم أموال الناس»‏.‏وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ عد عليهم السخلة ولو جاء بها الراعي على يديه، ألسنا تركنا لكم الربي والأكولة والماخض وفحل الغنم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن ملك نصابا فعجل الزكاة قبل الحول لسنة أو أكثر أو لنصب جاز‏)‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام استسلف العباس زكاة عامين، ولأنه أدى بعد السبي وهو المال‏.‏ والحول الأول وما بعده سواء، بخلاف ما قبل تمام النصاب لأنه أدى قبل السبب فلا يجوز كغيره من العبادات، ولأن النصاب الأول سبب لوجود الزكاة فيه وفي غيره من النصب، ألا يرى أنها تضم إليه فكانت تبعا له‏.‏ وقال زفر‏:‏ إذا أدى عن نصب لا يجزيه إلا عن النصاب الذي في ملكه، لأنه أدى قبل السبب وهو الملك، ولنا ما بينا، ولأن المستفاد تبع الأصل في حق الوجوب، فيكون تبعا في حكم الحول أيضا، فكأن الحول حال على الجميع‏.‏

فصل ‏[‏حكم من امتنع من أداء الزكاة‏]‏

‏(‏من امتنع من أداء الزكاة‏)‏ أخذها الإمام كرها ووضعها موضعها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خذها من أغنيائهم»‏.‏ وهذا لأن حق الأخذ كان للإمام في الأموال الظاهرة والباطنة إلى زمان عثمان رضي الله عنه بهذه النصوص، ففوضها في الأموال الباطنة إلى أربابها مخافة تفتيش الظلمة إلى أموال الناس، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام، فإذا علم أنهم لا يؤدون طالبهم بها؛ وما أخذه الخوارج والبغاة من الزكاة لا يثني عليهم لأنه عجز عن حمايتهم، والجباية بالحماية، ويفتي لأهلها بالإعادة فيما بينهم وبين الله تعالى لعلمنا أنهم لم يأخذوها بطريق الصدقة ولا يصرفونها مصارفها‏.‏

واختلف المتأخرون فيما يأخذه الظلمة من السلاطين في زماننا‏.‏ قال مشايخ بلخ‏:‏ يفتون بالإعادة كالمسألة الأولى‏.‏ وقال أبو بكر الأعمش‏:‏ يفتون بإعادة الصدقة لأنها حق الفقراء ولا يصرفونها إليهم، ولا يفتون في الخراج لأنه حق المقاتلة وهم منهم حتى لو ظهر على الإسلام عدو قاتلوه‏.‏ قال شمس الأئمة السرخسي‏:‏ الأصح أن أرباب الأموال إذا نووا عند الدفع التصدق عليهم سقط عنهم جميع ذلك، وكذا جميع ما يؤخذ من الرجل من الجبايات والمصادرات، لأن ما بأيديهم أموال الناس، وما عليهم من التبعات فوق مالهم، فهم بمنزلة الغارمين والفقراء، حتى قال محمد بن سلمة‏:‏ يجوز أخذ الصدقة لعلي بن عيسى بن ماهان والي خراسان؛ ومن مات وعليه زكاة أو صدقة فطر لم يؤخذ من تركته، وإن تبرع به الورثة جاز، وإن أوصى به يعتبر من ثلثه لأنها عبادة، فلا تتأدى إلا به أو بنائبه تحقيقا لمعنى العبادة، لأن العبادة شرعت للابتلاء ليتبين الطائع من العاصي، وذلك لا يتحقق بغير رضاه وقصده، ولأنه مأمور بالإيتاء، ولا يتحقق من غيره إلا أن يكون نائبا عنه لقيامه مقامه، بخلاف الوارث لأنه يخلفه جبرا، وقضية هذا أنه لا يجوز أداء وارثه عنه إلا أنا جوزناه استحسانا، وقلنا بسقوطه عنه بأداء الوارث، لحديث الخثعمية حيث قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فدين الله أولى»‏.‏